ستترك كل أنظمة الحمية وحسابات المعادن جانبا وستذهب إلى وليمة أعدها لها الأهل إكرامًا لعودتها من ديار يسمونها .. غربة.لا تزال تذكر بأن الاعتذار كفرٌ ، وعدم الإقبال على الأكل هو .. رأيٌ بل حكمٌ .
وجب الذهاب إذن وهي على صوم منذ الأمس بنيةِ الالتهام .
طبقات الدهن المتلألئة فوق الأطباق أصابتها بالصدمة ،
والمائدة رأت أولها ولكن لم تتبين إلى أيهم من مضيفييها تنتهي ..
شباب العائلة الكبيرة يتحلقون حولها ، بحثت عن وجوه النسوة ، فوجدت الموشِمات منهن فقط أو من بقي حياّ من زمن الثورة !.
أين الفتيّات الصبيّات .. !؟
العناق و التقبيل برباعيات سريعة متتالية ، أصابتها بالدوار ، والدور على البقية لم يحن بعد ..
وجدت في دفء اللقاء، اختصارا لحكايات الأم عمّا فعله الزمن بكل واحد .. منهم .
السؤال عنها وعن أحوالها يتكرر إلى آخر لقمة دسمة، بكل الصيغ .. المعجبة والحاسدة و الفضولية و المتحسرة ، وهي تجيب بلا كلل أو ملل، وفِي داخلها صوت يقول إن هو إلا عشاء و سينتهي .. مهما طالت الأسئلة.
من بين الوجوه القريبة ، وجدت وجها جديدا لم تعرفه ولم تحدس ابن من هو، ولم تسعفها لعبة البحث عن الجينات التي تتقنها، فتوجهت نحوه بينما البقية يتلقفون الكلام بينهم بلا نهايات .
– من أنت ؟ لم أتعرف عليك ؟ .
– حسّان .
وفورا عرفت أنه ابن أحد أقاربها الذي قضى إثر مرض عضال ، ولكن كانت تعتقد أن ابنه حسّان صغيرٌ، وها هي تجده شابا وسيما مختلفا ، عن التقاسيم المشتركة التي يشتهر بها رجال العائلة من الأنف البارز و الفك العريض .
ربما لم تهتم أمها لأمره كما تفعل مع البقية ..
أعادت التحية وعرفته عن نفسها ، فكان جريئا وقاطعها بالقول :
– أعرفك جيدا يا ابنة العم، وأتابع أخبارك ، ولا أكذبك إن قلت على خطاك أسير ، وقد دعوتُ نفسي إلى العشاء حين عرفت أنه على شرفك سيقام .
– سعيدة بك يا حسّان ..
– وسأكون أسعد إن منحتني شرف التواصل معك دائما !
وقبل أن تربت على كتفه وهو القريب الصغير ، وضع أمامها هاتفه كي تمنحه رقمها ، ففوجئت بصورتها تمتد على خلفية الشاشة ! نظرت إليه باستغراب ، فوجدت منه نظرة جريئة وواثقة .
ضحكت من أحلامه ، فسألته عن عمره .. فرفض الإجابة ولكن توقعت أنه لم يتجاوز العشرين .
جاملته بحديث عام ضاحك، ومنحته رقمها ، ثم وزعت ما تبقى من جهدها لما تبقى من وقت السهر الطويل .
أزفت ساعة المغادرة، وعند الباب وقف حسّان يحدث عمه الكبير أنه هو من سيوصلها إلى البيت . لما يمانع وهي كذلك .. بينما بقية الشباب أصابهم صمت الحقد والحرج معا .
لو تزوجت ْفي العمر المعتمد في قريتها لكانت أنجبت من هو أكبر من حسّان، ووفق هذا الحساب ، لم تَر حرجا في أن تتأبط ذراعه ، فالبرد شديد والكعب عالٍ والطريق من بيت عمها إلى السيارة .. مظلمة وغارقة في الحفرِ.
كان أنيق التصرف، فتح لها سيارته وانتظر واقفا إلى حين اعتدلت في جلستها . سألها عما تحب سماعه و عن قسوة البرد وكيف تشتهي أن .. يزيله.
مُصرّة هي على الوصول به إلى بيتها سالما من تعرجات الطريق ومن نزق مراهقته وخياله الذي اتخذ منها مرتعا خصبا .
– ماذا تدرس ؟
– فيزياء نووية ..
– تخصص ينبئ عن ذكاء يا حسّان
– أنت قدوتي .. أريد أن يكون لحياتي معنىً مختلفا عن روتين البلادة الذي نعيشه هنا .
– كلامك فيه نضج يفوق عمرك ..
– لستُ صغيرا ..
– بلى أنت كذلك ، بحساب السنين، فحين هاجرت أنا كنت في علم الغيب يا هذا ..
– وعمري الآن كل عام بعشرٍ مما تعدّين .
– لمّاح وذكي .. تعجبني .
– وأنت قريبتي ، وقدوتي وخليلة .. خيالي .
– جريء .. بل وقح .
– بعضُ فعلك في شخصيتي ..
– كيف ؟
– نشأت على أساطير الهوى التي نسجتها الحكايات عنك وعن تمردك ..
– ولكنها ليست من الواقع في شيء .
– أحاديث الإفك تفتك بي ..
– تضحكني يا هذا .
– ضحكتك أسطورة عشق ، أعشقها .. وأعشقك.
– ما بك أيها الطفل ؟!
– لستُ طفلا ..
قالها بحدة ، ثم أوقف السيارة جانبا في منعطف شديد الظلام ، ثم التفت إليها ، ولا يرى من وجهها سوى ما تضيئه أزرار السيارة من الداخل ، كانت محتدة قليلا .. شفتاها مطبقتان بغضب ، فاقترب منها يريدهما بقوة . صدته بصوت مكتوم ، ولكنه كان أقوى من غضبها .. بكلتا يديه تمكن من إحكام قبضته على وجهها وانهال عليها بقبلٍ عنيفة ، وهي بالكاد تجد متنفسا.. لتتنفس .
ثم شعر أن مقاومتها بدأت تلين ، بل ويدها تشد عليه إقبالا وليس .. دفعاً. أراد أن يختبر شعوره ، فهمس لها :
– هل آلمتك .. ؟
– نعم .،
– ولكن أشتهيك ! صمتت قليلا ثم مسحت على شعره وردت بوضوح :
– ما رأيك ؟ .. أعتقد أن الكرسي الخلفي للسيارة .. مريحٌ أكثر !؟
#ديهيا
مااروعك
إعجابإعجاب