لليوم الثالث على التوالي ، تجده جالسا على المسطبة قبالة البحر، موقع ممتاز لمن أراد أن يدير ظهره .. للعالمين.
ذهبت إليه ودعت نفسها لمشاركته رحلة الهروب المؤقت ولو جلوسا .
ابتسم لها وقال : – الأمكنة الجميلة للمبكرين..
– أحجز لنفسي مكانا جميلا ولو متأخرة .. فلا تقلق .
– لا تنامين كثيرا !
– كيف عرفت ؟ اعتقدت أنك غير ملقٍ بالا لما حولك !
– الضوء المنبعث من كوخك مزعج ، وحتى حين تكتبين أسمع نقرك صراخا لا يُطاق .
– أذهلتني .. هل استأجرت عند عتبة الباب مثلا ؟
– ما الذي تكتبينه طوال الوقت !؟ هذه الجزيرة للنقاهة من بؤس البشر وحديثهم واختراعاتهم .. جدي لنفسك مساحة للتأمل فأنت بحاجة لها .
– تدهشني كيف تصفني وتنصحني، هل أنت بعلوم النفس فقيه ؟
– لا ، لقد امتهنت علوم البحار وهي كالنفس في تقلباتها وأمزجتها .. والفرق فقط يكمن في أن عملي على خطورته يمكنني من التنبؤ بالأسوأ والاحتياط له !.
– جرحك عميق ..
– كيف عرفت ِ ، هل أنت للجراح طبيب ؟
– ما هو عملك ؟
– أعمل بمركز مراقبة الملاحة البحرية في هذا الميناء ..
– لماذا اعتقدتك سائحا !؟
– أنا كذلك لهذا الأسبوع ..
– وأنتِ ؟
– هل تصدق !؟ أحتار دوما في التعريف بنفسي ، فلا الإسم اختياري ، ولا التاريخ تاريخي ولا الجغرافيا حدودي .. هل لك أن تعرفني كما تراني وتسمعني .. وتعفيني من أسئلة الحالة المدنية ، فكل أجوبتي،، ستكون كذبا !.
استشعر أن يومه سيكون مختلفا عن روتينه المعتاد في التأمل والرياضة والسباحة مساءً .. طلب منها أن ترافقه إلى فسحة سيرٍ في أرجاء الجزيرة ، فهي منذ وطئتها لم يتعد تحركها مساحة ما بين شرفة كوخها إلى المسبح ثم ركض سريع على الشاطئ .
رحبت بالفكرة ، فهي تحب دوما أن يبادر الآخر إلى تجريدها من ذاتها وأفكارها ..
– أنت لستِ متزوجة ولا مرتبطة !
– هل أنبأتك أصابعي بالخبر ؟
– لا ، وإنما التي يملأ حياتها رجل ، تكون أكثر تركيزا وأكثر نوما !
– وهل يغريك شرودي وسهري !؟
– بل يمنحني يدك إن شارفت على السقوط ، الجزيرة تستعد لغرق وشيك ، الانجرافات صدّعت بنيانها ..
– خفت !
– كاذبة .. فأنت هنا لأجل انتحار جميل ، تنتظرين القدر أن يمنحك إياه !
توقفت على تلة صغيرة ، وراحت تستنشق بصوت مسموع نسيم البحر العليل ، كانت ترتدي فستانا أبيض شفافا ، تتخلله خطوط سوداء ، ولم تكن تستر ما تحته .. لا على مستوى الصدر أو أسفل البطن . بقي صامتا منتظرا فراغها من أخذ جرعات الهواء التي تأخذها بأنفاس غريق .. نجا للتو .
سبقها بخطوات متأنية وهي وراءه تتعثر في مشيتها وبحذر تنظر إلى الأخاديد المتشعبة من حولها ، فعلا الجزيرة آيلة إلى الزوال .. ثم وجدت اللحظة مؤاتية لما كان يعتلج في صدرها .. صرخة قوية دوت من عمقها وردد المكان صداها . لم يفاجأ هو بهذا الصوت الرهيب الذي نفض رفيقته المجهولة نفضا ..
– هل تشعرين بالجوع الآن ؟
– بالخواء .
– دعينا نملأ مكانه ..
ولعهر خيالها ابتسمت لهذه العبارة .. ونظرت إليه بتطفل فوجدته لها راصدا :
– ما الذي جعلك تبتسمين .. شيطانة أنتِ ولكن لا بأس بك، فأنت تنبضين بالحياة .
– لماذا يجب علينا الحياة حين نسأمها ؟ .. لماذا نُكره على الاستزادة من الألم ؟
– إسمعيني جيدا، لقد واجهت الموت أكثر من مرة في حرب عبثية، وكنت الناجي الوحيد في إحدى المعارك وشعرت بالحرج من حياتي بين الأرامل والثكالى ، ولكن حين انتهى كل شيء، أدركت أني ولدت من جديد ، وأني مُنحت فرصة البقاء ولأجعل لحياتي معنى هذه المرة .
– وأي معنى في مهنتك هذه ؟
– أرشد الضالين من السٓفٓن إلى مساراتهم وأجنبهم غضب البحار و المحيطات ..
– وأنتِ ؟
– ألم تحدس بعد ؟ فأنا أراك قد قمت بسبر جرحي ؟
– أعتقد أنك .. راهبة ؟
بحركة تمثيلية، نظرت إلى الثوب الغلالة الذي ترتديه وقبل أن تجيبه ، قال لها :
– أنتِ مؤمنة، نقية السريرة .. وحزنك له بعد وجودي، تدركين حجم الضياع الذي نعيشه في الحياة وغياب منطق موحد تحتكم إليه الإنسانية .
– أوجاعي مختصرة في شخصي ..
– ليس وأنت تكتبين في حال بكاء مستمر .. لقد أرقتني يا فتاة .
صمتت واكتفت بإخراج زفرات الألم حتى كاد الدمع يغلبها ، ثم كمن أراد العودة إلى مقطع استيضاح فاته :
– أنت محارب إذن ، وبين قومك بطلٌ ؟
– دعكِ من نبرة الاستهزاء ، فقد قلت لك كانت حربا عبثية .
– هل أنت متزوج ؟
– لم يكن عندي الأمان الذي تبحث عنه أي امرأة ..
– والحب ؟
– الحب رباط لا يقل قداسة عن الزواج ..
– الرغبة ؟
هنا ضحك ، وقد بدا كطفل جميل بريء دغدغته أمه فجأة .. لم يجبها ، وأشار عليها تغيير مسلكهما باتجاه الشاطئ . أمسكت بطرف قميصه الرمادي، وهي تنزل منحدرات وعرة ، كان يتأكد من سلامتها بتفقد يدها من دون أن يلتفت إليها .
لطالما وجدت في حديث العقل غواية ، وهذا الرجل يزداد وسامة مع كل حوار مقتضب يجمعهما في هذه النزهة العشوائية .. كان في الأربعين ، يشبه الضباط المتقاعدين طولا وسحنة وصرامة .. وكانت هي في الثلاثين ، مثل راهبة – كما وصفها – بجسد بقي منسقا على فطرته ، وشعر مبعثر الأطراف بتسريحة أهل الغاب ووجه اكتفى بحمرة من أثر الشمس وبعض النمش الموزع على وجنتيها . وصلا إلى حيث استوت الأرض برملها الأبيض الناعم ، ومد الموج يداعب أقدامهما ..
وكأنه كان ينتظر مستقرا حتى يفاتحها في أمر جلل ، وقف قبالتها وأمسك كلتا يديها .. ثم قال لها بعد أن أخذ نفسا عميقا :
– من أنتِ ؟
– أنا امرأة .. غير مكتملة .
– كيف تكون المرأة غير مكتملة ، وهي تحمل في نظراتها الإباء، وفِي مشيتها الشموخ والاعتداد ، وتتخذ من الكتابة – لا الجسد – متنفسا ؟
– ولكن بي رغبة وأبحث لها عن متنفس .
– كاذبة ..
– كيف .. هل جرّبْتَني ؟
– أنتِ تناورين نفسك ، وتمتحنين صبري ، طفلة شقية مازلت، وأنت في نظري لم تبلغي بعد ..
لم تذكر أن رجلا استفزها كما يفعل هذا الضابط، ضغطت على يديه وأرشدتهما إلى نهديها ..
اقتربت منه ومنحته صفحة وجهها ليقبلها أنىّٓ شاء . فاكتفى بطبع قبلة خفيفة على جبينها ..
ابتعدت عنه غاضبة ، وراحت تقذف الحصى بحدة .. لحق بها معتذرا وقال :
– عرفيني باسمك على الأقل لأهمس به وأنا أقبلك ..
– هل تعبث بي ؟
– بل أنت من يريد جرفي إلى وادٍ سحيق .. لا قرار له .
– نحن غريبان لنتصرف كعابريْن ..
– منذ الْيَوْم الأول لمجيئك هنا ، ولما لم يكن حديث بيننا ، وطنت النفس على أنك لست .. عابرة . فكيف إن منحتني شرف العبور على خارطة جسدك .. !؟
عاودها المرح وشقاوة الطفولة ، فاقتربت من وجهه و هي تمد نحوه ذقنها و شفتيها المزموتين .. احتواها في لمح البصر، و غاصا معا.. في قبلة طويلة .. أسكرتهما.
التقطت بعضا من روحها وألقت برأسها على كتفه ، وهو يضمها ويهمس لها أن تعرفه باسمها ..
دفعها قليلا ثم حملها بين ذراعيه ، كم شعرت بأنها خفيفة تحلق في سماء صافية ، كم تمنت أن تبقى أو تموت هكذا في هذه الوضعية المستسلمة .
أوقف تأرجحه بها وراح يتأملها وهي تتهرب من إزعاج الشمس لعينيها ، كان مبتسما في فرح ودهشة ..
– أشعر وكأني أحلم ، لم أله مع فتاة ساحرة مثلك منذ زمن طويل .. الحياة هي أنثى جميلة في لحظة طاعة واستسلام .. أنت الحياة أيتها الجنية !. أرخت نفسها فزاد ثقل جسمها عليه .. مددها على الشاطئ ، و تابع حديثه و هو منكب عليها :
– لماذا أنت مغرية ومخيفة إلى حد العجز ؟
– بل مستسلمة .. كما ترى .
– ولكن بداخلك سر ّ، يحجمني عنك !
– توقف عن التوغل في الأعماق ، وستعرف الراحة وربما أرحتني بعدها .. أخذت تباعد وتقرب بين ساقيها مشكلة تلة صغيرة من الرمل ، بينما أناملها تداعب شعرها الغجري .. كان يراقب حركاتها والدم يغزو وجهه ، في دفقات كادت تعمي بصره .
– هلا توقفت ؟
– هل أغريتك ؟
– نعم فعلت وتفعلين بي ما هو أسوأ .. تفقدينني صوابي .
– ثم ؟
– هل نتواعد الليلة ؟
– الليلة !؟ وماذا عن الآن .. أنا أشتهيك !
– لستِ عابرة ، وللقائك تُوقد الشموع في ربوع الجزيرة ..
– ولكن الرغبة هي .. فكرة .. لحظة .. أنفاس حياة ! ربما انقضت مع حلول .. الليلة ؟!
أجلسها ونفض عنها ما علق بأثوابها من حبات الرمل ، ثم انتبه عن قرب إلى نهديها كم كانا صارخين في وجهه، عض على شفتيه وأحكم إغلاق فتحة فستانها موهما نفسه بسترِ ما لا يستر . نظرت إليه بعطف وامتنان ، ووقفت بسرعة ، وقالت له :
– موعدنا الليلة إذن.
– قبل أن تغادرينني ، هل لي أن أعرف لم ٓ قلت أنك امرأة غير مكتملة ؟
– عذراء .. أنا .
تركته للصدمة وغادرت بلا سلام . ومع أفول الشمس ، أشرق هو عند باب كوخها مبتسما مكتمل الأناقة وبيده باقة ورد حمراء .. كانت قد تلفعت بشال قطني مزركش ، أشارت له بيد مرحبة بالدخول وبالأخرى كانت تحمل حاسوبا لوحيا ، دخل بخطى واثقة ، ووضع الورود في مزهرية وسقاها ماءً .. ثم بعفوية سألها :
– ماذا تكتبين ؟
– أنهيت الكتابة ، وأرسل الآن النصوص للمراجعة ؟
– جميل ، هل أنت صحافية ؟
– عاشقة ..
رأى في وجهها جدية ، وانتبه إلى ملبسها المحافظ ، فحاول أن يستفهم أكثر ، قبل أن يقع في أمر يكرهه وبدأ يحدس نذره ..
– هل نحن على موعدنا ، أم أنني أتيت مبكرا ؟
– إن شئت بقيت فحديثك يعجبني ..
– حديثي !؟ وماذا عن ..
– قلت لك ، الرغبة عندي .. لحظة .
– رغبتُ أن أستعيد بك الحياة وأن أجعلك امرأة .. كاملة.
– لن أكون امرأة مادمت .. أفكر.